
بقلم: أ. لما عواد
في خضم الأزمات المتلاحقة التي يمر بها الاقتصاد الفلسطيني، يتصاعد سؤال جوهري: هل لا يزال نموذج الريادة الفردية كافيًا لإنقاذ اقتصاد محاصر ومنكمش؟ أم أننا بحاجة إلى نقلة نوعية نحو ريادة جماعية تنبع من داخل المؤسسات القائمة؟ في زمن الانهيار، لا يمكننا الاكتفاء بالأبطال الفرديين، بل لا بد من بناء منظومة اقتصادية قادرة على التجدّد من الداخل.
اقتصاد في حالة انكماش حاد
شهد عام 2024 انكماشًا اقتصاديًا غير مسبوق، حيث تراجع الناتج المحلي بنسبة 28٪، مع انهيار كارثي في غزة بنسبة 82٪، وانكماش يتراوح بين 19–28٪ في الضفة الغربية. ارتفعت البطالة إلى 51٪، وتخطت 80٪ في غزة. أما بداية 2025، فرغم تحسن طفيف في مؤشرات الضفة الغربية، إلا أن مؤشر دورة الأعمال بقي سالبًا، وتستمر غزة في مستويات مأساوية تقارب −100 نقطة.
القطاعات الإنتاجية تنهار الواحد تلو الآخر: الإنشاءات (-46٪)، الصناعة (-33٪)، الزراعة (-32٪)، والخدمات (-27٪). ومع ازدياد تكلفة المعيشة بنسبة 227٪ في غزة، تقلصت القوة الشرائية بنسبة 70٪ فيها، مقابل 3٪ فقط في الضفة الغربية.
المؤسسات الصغيرة: عمود بلا قاعدة صلبة.
رغم أن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة (MSMEs) تمثل 97٪ من مجموع المؤسسات، وتوفر نحو 87٪ من الوظائف، إلا أن مساهمتها لا تتعدى 24٪ من الناتج المحلي، نتيجة ضعف التكنولوجيا والإنتاجية. ما يعني أن هذه المؤسسات تمثل فرصة ضائعة حتى الآن، لكنها أيضًا تمثل الأمل الأكبر في قلب المعادلة.
لقد ضخّت مؤسسات تمويلية مثل البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية (EBRD) و"فاتن" تمويلات بقيمة 3 ملايين دولار لدعم هذه المؤسسات، بما فيها مشاريع تقودها نساء. لكن هذه المبادرات، رغم أهميتها، ستبقى محدودة ما لم تُقرن بتحول ثقافي ومؤسسي يفتح المجال أمام الابتكار الداخلي.
التحول نحو الريادة من الداخل: Intrapreneurship
ما نطرحه هنا هو تحول مفاهيمي وعملي: من ريادة الأعمال الفردية (Entrepreneurship) ، إلى ريادة من داخل المؤسسات القائمة (Intrapreneurship) أي أن يصبح الموظف، أو العامل، أو حتى المتطوع، شريكًا في التطوير، لا منفذًا فقط.
الفرق بين النموذجين ليس لغويًا. فالريادة الفردية تفترض انطلاقة من الصفر، وتحتاج إلى تمويل، وبيئة قانونية، وحرية حركة، وكلها مفقودة أو معطلة في السياق الفلسطيني. أما الـIntrapreneurship ، فيعتمد على تجديد المؤسسات القائمة عبر ضخ روح الابتكار فيها، دون الحاجة لتأسيس جديد أو استثمار خارجي.
لماذا هذا التحول الآن؟
سؤال المقال: هل يكفي النجاح الفردي لبناء اقتصاد وطني؟
الجواب ببساطة: لا. لا يمكن أن نبني مجتمعًا على أكتاف أبطال فرديين فقط. يجب أن نوفر للمبتكرين بيئة آمنة داخل المؤسسات، حيث يمكنهم أن يحدثوا فرقًا حقيقيًا في الأداء والاستدامة.
في فلسطين، لدينا أمثلة لمؤسسات صمدت أمام الانتفاضات والحروب والحصار، وأعادت هيكلتها، بل وتوسعت. اليوم، هذه المؤسسات لا تحتاج فقط إلى موظفين "يملأون شاغرًا"، بل إلى أفراد يصنعون الفرق، ويعيدون تعريف النجاح على أساس جماعي.
إن تفعيل نموذج الـ Intrapreneurship لا يعني إلغاء الريادة الفردية، بل تعظيم أثرها عبر إشراكها في نسيج المؤسسة، وتحويلها إلى طاقة تغيير داخلي مستدام.
هذا النموذج، إن تم تفعيله، يمكن أن يخلق ثقافة جديدة داخل المؤسسات: التآزر لا التنافس، التكامل لا الإلغاء، والبناء لا الاستهلاك. فكل مؤسسة فلسطينية تنجح، هي جزء من النجاح الوطني الجماعي ، نعم، لا يزال الفلسطيني مبدعًا ومثابرًا. لكن التحدي الأكبر اليوم هو: كيف نحول هذا الابتكار من أداة صمود فردي إلى بنية تغيير جماعي؟ كيف ننتقل من ثقافة "النجاة الفردية" إلى ثقافة "الإنماء المشترك"؟ كيف نبني اقتصادًا مقاومًا؟>
فكل مؤسسة فلسطينية تنجح، هي حجر في بناء الاقتصاد الوطني. والتحدي ليس فقط في الصمود، بل في تحويل الصمود إلى إنتاج وابتكار وإنماء مشترك. في زمن الحصار والانكماش، لا نحتاج فقط إلى الأمل، بل إلى نماذج بديلة وعملية. نموذج الـ Intrapreneurship ليس ترفًا فكريًا، بل خيار البقاء. فهل نجرؤ على تبنّيه قبل أن يصبح الوقت متأخرًا جدًا؟.