
الاقتصادي- أصبح مصنع يقع بجوار أرض مليئة بالأعشاب الضارة في جنوب الصين الصناعي نقطة اختناق عالمية لرقائق السيارات، ما قلب قطاعاً كان لطالما يعد متيناً، رأساً على عقب. في العام 2020، بعد انتشار جائحة كورونا، تعهدت شركات صناعة السيارات بتعزيز خطوط الإمداد بعد أن أثّرت الجائحة سلباً على إنتاج أشباه الموصلات، لكن الأزمة التي تجتاح مصنع شركة نيكسبيريا الهولندية لصناعة الرقائق الإلكترونية كشفت عن نقطة ضعف: لم يتخيّل قطاع الرقائق الإلكترونية أن تصبح الرقائق منخفضة التقنية أداة ضغط في يد الصين على صناعة السيارات حول العالم.
إذ لم تكن لدى شركة بوش في البداية بدائل كافية، على الرغم من طلب منتجات نيكسبيريا بقيمة 200 مليون يورو (231 مليون دولار) سنوياً، فيما تمكنت شركة ميليكس النمساوية وشركة غابيل، الموردة لشركة آبل، من الحصول على رقائق من شركة نكسبريا، بعدما استعانتا بكيانات صينية، ما سمح لهما بالتسوية باليوان.
النقص في إمدادات نيكسبيريا أجبر شركة نيسان على خفض إنتاج سيارتها الرياضية متعدّدة الاستخدامات الأكثر مبيعاً روج، وهو ما يشكل خطراً مستمراً هذا العام. وقال متحدث باسم تويوتا إن هناك مخاطر قد تؤثر على إنتاج المركبات وأن الشركة ستواصل مراقبة التطورات عن كثب، كما أعلنت فولكسفاغن أن نقص رقائق نيكسبيريا قد يضرب أرباحها السنوية، وإنه "ليس بسبب مشكلة تقنية، بل نتيجة التوترات السياسية"، بحسب "الغارديان".
ووفق "بلومبيرغ" فإن بعض الشركات الألمانية وضمنها بي أم دبليو قلّل الإنتاج بسبب قلة توفر الرقائق. وأعلن مدير شركة مرسيدس التنفيذي أنهم يبحثون في بدائل للرقائق حول العالم، لتخفيف الاعتماد على نيكسبيريا. وعبرت شركة فولفو عن قلق من أن بعض مصانعها قد تضطر إلى الإغلاق إذا استمر التوتر وانخفض الإمداد.
بدأت القصة في العام 2018، عندما اشترت وينغتيك (Wingtech) التي يعود حوالى 30% من أسهمها إلى كيانات حكومية صينية، أغلبية أسهم نيكسبيريا Nexperia، لتصبح الشركة الأم، إلّا أنه هذا العام استخدمت الحكومة الهولندية قانوناً قديماً يعود إلى حقبة الحرب الباردة لمنع القرارات التي قد تعتبر تهديداً "لمعرفتهم التكنولوجية المهمة" في أوروبا، مع تزايد القلق من أن الشركة الصينية قد تنقل التكنولوجيا الحساسة إلى الصين أو تغيّر في الحوكمة بطريقة قد تضر الأمن الأوروبي، وفي سبتمبر/ أيلول أعلنت الحكومة الهولندية السيطرة على شركة نيكسبيريا.
وجرى تعليق رئيس مجلس الإدارة (الصيني) من منصبه بعد حكم محكمة هولندية، وعُيّن عضو غير صيني يمارس صفة تصويت "حاسمة"، وفق ما نقلت "الغارديان"، آنذاك. مع ذلك، صرحت السلطات الهولندية أن الإنتاج العادي لنيكسبيريا سيستمر حتى مع تدخل الدولة. وفي حين تولت الحكومة الهولندية السيطرة على المقرّ الرئيسي في نايميخين، ظلّت العمليات في الصين تحت سيطرة الشركة الصينية الأم وينغتيك. وقال لي شينغ، أستاذ العلاقات الدولية في معهد قوانغدونغ للاستراتيجيات الدولية، وهو مركز أبحاث، "اعتقد الهولنديون أنهم استولوا على نيكسبيريا، ولكنهم لم يسيطروا إلّا على مبنى للمكاتب".
وتظهر الوثائق أن المسؤولين الأميركيين حذروا هولندا في يونيو/حزيران من أن شركة نيكسبيريا ربما لا تكون قادرة على التصدير إلى الولايات المتحدة إذا ظلّ رئيسها التنفيذي الصيني، تشانغ شيويه تشنغ، في منصبه. وقد أدرجت واشنطن شركة وينغتيك على "قائمة الكيانات" التي تعتبر تهديداً للأمن القومي العام الماضي، بسبب دورها المزعوم في "مساعدة جهود الحكومة الصينية للاستحواذ على كيانات ذات قدرة تصنيع أشباه الموصلات الحساسة".
لصين انتقدت بشدة تدخل هولندا، واعتبرته "تسلّطاً قانونياً" للتدخل في شركة مملوكة صينياً، وردّت بقيود تصدير على بعض الرقائق المصنعة في فرع نكسبيريا في الصين، خاصة "المنتجات المجمعة، النهائية" من المصنع الصيني، ما خلق أزمة كبيرة في سلسلة الإمداد العالمية طاولت غالبية شركات السيارات.
وبعد الرسالة القوية، وإثر إعلان هولندا مراجعتها قرار الاستحواذ، والسير بمحادثات بين الاتحاد الأوروبي وبكين، وبعد لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالرئيس الصيني شي جين بينغ في بوسان، أصدرت الصين في نوفمبر/ تشرين الثاني إعفاءات مؤقتة لشحنات رقائق نكسبيريا المخصصة للاستخدام المدني خصوصاً صناعة السيارات الأوروبية، دون التراجع رسمياً عن اعتراضها على التدخل الهولندي.
الأسبوع الماضي، تراجعت هولندا عن قرارها بالاستحواذ على شركة نيكسبيريا، وهو ما يشير إلى تحقيق تقدم محتمل، إلّا أن الهزة الكبرى التي طاولت شركات السيارات من قرار صيني جزئي طاول مادة أولية واحدة، أعاد ترتيب أوراق صناعة السيارات العالمية، إذ تتجاوز هيمنة الصين التكنولوجيا المتطورة والمعادن النادرة لتشمل مكونات بسيطة لكنها حيوية، فتستغل بكين هذه القوة للتفاوض مقابل شلّ الإنتاج العالمي.
ورغم استئناف التوريد لبعض الموزعين المحليين في أواخر أكتوبر، لكن شركة نكسبيريا اشترطت الدفع باليوان، بدلاً من العملات الأجنبية المستخدمة سابقاً. ويبدو أن تغيير العملة جاء في إطار سعي الشركة الصينية للعمل على نحوٍ أكثر استقلالية عن المقر الرئيسي الهولندي، وتكدست الرقائق الجاهزة للشحن في مصنع دونغقوان لعدم قدرته على التعامل مع جميع معاملات اليوان. من مصنعها في دونغقوان، تُشحن نيكسبيريا أشباه الموصلات المستخدمة في كل شيء، من فرامل السيارات إلى النوافذ الكهربائية. تُباع هذه الأشباه بأجزاء من البنس للواحدة.
في بيان، صرّح متحدث باسم وينغتيك بأن نيكسبيريا أصبحت رائدة في هذا المجال منذ استحواذها، وأضاف: "تُظهر الأزمة الحالية أن تفكيك الشركات العالمية يضر بسلاسل التوريد ويُعرّض الصناعات الرئيسية للخطر". وقال ألفريدو مونتوفار هيلو، المدير الإداري لشركة أنكورا الاستشارية في بكين، إن حادثة نيكسبيريا تظهر أن الضعف الاستراتيجي لدى شركات السيارات يمتد إلى ما هو أبعد من المكونات عالية التقنية.