"أكلنا من أرضنا": كيف تحدى صحفيان أزمة الرواتب بالعودة للزراعة
10:53 صباحاً 31 كانون الأول 2025

"أكلنا من أرضنا": كيف تحدى صحفيان أزمة الرواتب بالعودة للزراعة

الاقتصادي- لم تكن عودة الصحفي معاوية نصار وزوجته الصحفية ديمة أبو شملة إلى الأرض قرارا عاطفيا عابرا، ولا هروبا من الواقع الاقتصادي الصعب، بل خيارا عائليا واعيا، نابعا من قناعة راسخة بأن الأمن الغذائي يبدأ من الحقل، وأن العلاقة مع الأرض ليست مجرد مهنة بل هوية وجذور وأسلوب حياة.

يعمل نصار وزوجته في المجلس الأعلى للشباب والرياضة، ومع تقليص الدوام وتراجع الأجور، وجد الزوجان نفسيهما أمام معادلة قاسية يعيشها آلاف الموظفين: دخل محدود، وغلاء متصاعد، ومستقبل اقتصادي ضبابي، ولكن بدلا من الاستسلام، قررا تحويل الوقت المتاح إلى فرصة، والعودة إلى أرض العائلة في قرية مادما جنوب نابلس، والانطلاق في تجربة زراعية بدأت بالاكتفاء الذاتي، وتحوّلت تدريجيا إلى نموذج مُلهم.

قرار عائلي واعٍ… من الاكتفاء الذاتي إلى استعادة الجذور

يقول نصار في حديث خاص لـ"الاقتصادي"، إن قرار العودة إلى الأرض جاء بعد تشاور عائلي طويل، والهدف الأساسي، كان إنتاج غذاء نظيف، ومعرفة مصدر الطعام، وإعادة بناء العلاقة مع الأرض التي تشكّل جوهر الهوية الفلسطينية.

لكن المشروع لم يتوقف عند الزراعة فقط، بل اتخذ بعدا ثقافيا وتراثيا، وإلى جانب زراعة الخضروات، حرص الزوجان على توثيق الأكلات الشعبية الفلسطينية، والخبز المنزلي، والصابون البلدي، والأكل على الصاج، في محاولة لاستعادة نمط الحياة الريفية الفلسطينية بكل تفاصيله، وليس مجرد إنتاج محصول زراعي.

ويشير نصار إلى أن الأرض، التي جرى شراؤها على مراحل خلال السنوات الأخيرة، كانت شبه مهملة، وزراعتها محدودة في السابق، إلا أن تجربة الزراعة المنزلية لدى الأهل في محيط البيت شكّلت دافعا إضافيا لتوسيع التجربة، وتحويل الأرض إلى مساحة إنتاج حقيقية، وذاكرة حية للتراث.

من فشل البطاطا إلى نجاحها… التعلم من الأرض والناس

بدأت التجربة الزراعية قبل نحو عام ونصف، وكان موسم البطاطا الأول مخيبا للآمال؛ حبات صغيرة، وإنتاج ضعيف، في منطقة يُشاع أن البطاطا لا تنجح فيها بسبب طبيعة التربة والبيئة، لكن الفشل، وفق نصار، كان درسا أساسيا.

بعد التجربة الأولى، بدأ البحث الجاد عن المعرفة، تولت زوجته ديمة أبو شملة، جانب البحث والتواصل مع مختصين، من بينهم مهندس زراعي من سوريا، الذي قدم إرشادات دقيقة حول مواعيد الزراعة، والتسميد، وطبيعة التربة، وأسباب ضعف الإنتاج، إذ تم دمج الزراعة التقليدية بخبرات حديثة، بما يتناسب مع مناخ فلسطين وخصوصية الأرض.

النتيجة كانت لافتة في الموسم الثاني: إنتاج وفير وصحي، وبطاطا بكمية غير مسبوقة في المنطقة، حيث وصل إنتاج البيت الواحد إلى ما بين 2–3 كيلوغرامات، في سابقة أثارت اهتمام المزارعين في القرية والمناطق المجاورة.

إلى جانب البطاطا، زرع الزوجان الخس البلدي والأميركي، السبانخ، الزهرة، الملفوف، البصل، الثوم، الزعتر، الكوسا، والفقوس، ومعظم المحاصيل نجحت، وفي مواسم الذروة، توقفا عن الشراء من السوق، بل تحول الفائض إلى مصدر بيع محدود أو مشاركة مع الجيران.

الزراعة كاستقرار نفسي ورسالة مجتمعية

لم يحقق المشروع عائدا اقتصاديًا بالمعنى التجاري، لكنه نجح في تقليص مصروف الأسرة إلى النصف تقريبا. "إذا كنت أشتري للبيت بـ200 شيكل، صرت أشتري بـ100"، يقول نصار، مشيرا إلى أن الاكتفاء شمل أيضا بيت الأهل.

الدجاج البلدي واللاحم وفّر اللحوم، والخبز يُحضر منزليا في أغلب الأوقات، وما يزيد عن الحاجة يتم بيعه، ويُعاد استثماره في حراثة الأرض، وشراء البذور، والاشتال الجديدة، لضمان استمرارية المشروع.

لكن الأثر الأعمق، بحسب نصار، كان نفسيا، ويقول: "الزراعة أعطتنا طمأنينة واستقرارا داخليا، صرت أتعامل مع الوقت بشكل مختلف، أراقب البذرة تكبر، أتعلم الصبر، وأشحن طاقتي حتى لو جلست في الأرض أشرب شاي دون أن أعمل شيئًا".

ومع توثيق التجربة عبر منصات التواصل الاجتماعي – فيسبوك، تيك توك، إنستغرام ويوتيوب – تحوّلت التجربة الشخصية إلى رسالة عامة، فاليوم، يقول نصار، لم يعد وحده في الحقل، فالكثير من المحيطين به بدأوا بزراعة أراضيهم، حتى في المدن وعلى الشرفات والأسطح.

ويؤمن نصار أن العودة إلى الأرض ليست تراجعا، بل خطوة إلى الأمام في عالم يتجه نحو أزمات غذائية متصاعدة، "الشباب سيُجبرون على العودة للزراعة، ومن يزرع يأكل، ومن لا يزرع سيبقى رهينة السوق".

ويختم، بالتأكيد على أن الزراعة لا تحتاج مساحات واسعة ولا رأس مال كبير، بل قرارا، ورغبة، "حتى لو زرعت نعنع وبقدونس على شرفتك، ما تأكله من زرعك سيدفعك للاستمرار، ويمنحك لذة لا تشبه أي شيء آخر".

Loading...