
تسير مثقل الخطى، خائفا من المشهد الذي سيربك عينيك بعد هنيهة تجتاز الطريق كلها، تبقى خطوة واحدة لتدخل إلى هذا البيت كي تنفذ المهمة الموكلة إليك في هذا المساق، تتعثر قدماك من سوء الطريق، من أمامك ترى حبل غسيل عليه ملابس وضعت بفوضوية تامة، تميل بطرف رأسك لترى في مكان بعيد من البيت حجرة صغيرة لا تتعدى مترا واحدا عليك أن تقضي حاجتك فيها، وتقع وأنت تسير نحوها لكنك تمسك قواك من جديد لأنك مضطر أن تدخل إلى الحمام، عليك أيضا أن تخفض رأسك أنت وكل من رافقك للمساعدة لأن الباب لا يحتمل أي شخص قامته أطول من متر.
تدخل ولا ترى أمامك سوى غرفة واحدة لتسعة أشخاص ينامون داخلها، يوجد فيها الفرن، وعلى مقربة منه تلفاز فوقه قطعة قماش يثقلها الصدأ، وأمامه غسالة كبيرة تأخذ نصف الحيز، وخزانة تخرج منها الملابس ليتبادر لذهنك مشهد سقوط جسم هائل، وأرضية مصبوبة يتزركش اللون الأخضر عليها من شدة الرطوبة.
يفجعك المشهد، وتمسك قواك أنت وزملاؤك لتخبروا سيدة المنزل بأنكم ستعيدون بناء منزلها ضمن مساق الهندسة والمجتمع في جامعة النجاح الوطنية .
شروق الشلبي بإرادتها القوية وحبها المتواصل في أن تصنع شيئا جديدا، كان لها الحظ الأكبر في أن تكون منسقة هذا المشروع، لترى أول فرحة ترتسم على سيدة هذا المنزل منذ 17 عاما، وأطفال لم يصدقوا بأنه سيكون لهم غرفة منفصلة وسيخرجون أخيرا من جحيم طالت مدته، حيث تم الحصول على تمويل بمقدار 150 ألف شيقل، لإعادة بناء غرفتين ومطبخ وحمام لهذه العائلة، مع توفير كافة المستلزمات الأخرى .
وتروي لنا الطالبة شروق تجربتها وكيف انضمت إلى هذا المساق قائلة "سجلت في هذا المساق عند آخر فصل جامعي لي، وسمعت انه يركز من فترة قصيرة على الأعمال التطوعية فيتم تقييمنا بناء على إنجاز إنساني اجتماعي كبير، فهو مساق يصل الى الطبقات المظلومة في المجتمع، وكنت منذ صغري أحب هذه الأعمال وأسعى لأكون جزءا منها، فهي تجربة لن أنساها مهما مر عليها الزمن وكل التفاصيل ستبقى عالقة في ذهني، وأتمنى لو أعيد التجربة مرارا ".
وتضيف "هذا المشروع من أكثر المشاريع إنجازا، ففي أول زيارة لي ولزملائي للعائلة، صدمنا كثيرا من وضع الأسرة، وأصابنا شيء من الإحباط واليأس، حيث كان يتبادر إلى أذهاننا كيف لنا أن نبدأ، أو من أين سنبدأ، لكن قوينا من عزيمتنا وكنا على العهد المتواصل بأن نحقق فرحة واسعة لكل من في هذا المنزل، وبجهود كبيرة قمنا بتحقيق كل ما كنا نتمناه، حيث أذكر بأن صاحبة المنزل كانت في البداية غير متشجعة للفكرة وأعتبرتنا مثل أي أشخاص يسألونها عن حالها، ولكن من دون عون أو مساعدة، لكنها بعد ذلك تفاجأت بكل هذا الإنجاز، ولم تكن تتوقع بأن كل ذلك سيكون من طلاب جامعيين يسعون إلى عمل الخير.
وفي مشروع آخر يثمر حصادا واسعا، يحدثنا الطالب في كلية تكنولوجيا المعلومات أنس الشيخ عن تجربته في هذا المساق، حيث كان لزاما عليه حينها أن يختار أي مساق ضمن الإختياري الجامعي وكان كثير الحيرة، فوقعت عينيه على إسم هذا المساق ولم يكن يعلم أي فكرة عنه، ففي البداية بدأ المشرف بالحديث عن فكرة العمل التطوعي ومساعدة فئات محتاجة، فلم يتشجع لهذه الفكرة وشعر بالندم لتسجيله فيها، لكن بعد ذلك تغير تفكيره بشكل كامل، ويعتبره من أنجح المساقات الجامعية .
ويحدثنا أنس عن المشروع الذي أنجزه، قائلا "قمنا بمساعدة عائلة فقيرة تعيش في غرفتين مساحتهما 60 مترا ومطبخ وحمام منذ 40 سنة، لا يوجد كهرباء ولا ماء في البيت، والسقف من (الزينكو)، حيث كان التعمير الميداني لمشروعنا في شهر شباط، ورأينا كيف تدلف الماء من السقف على الغرفة، وصدمنا في البداية، لكن عدنا أقوى من السابق وسخرنا كل جهدنا لمساعدة هذه العائلة، حيث كنا ننهي دوامنا الجامعي الساعة الواحدة ظهرا، ونذهب على الفور إلى المنزل للعمل ونستمر حتى منتصف الليل ونعود صباحا الى جامعتنا بأمل أكبر ."
ومن ضمن المواقف التي لا ينساها أنس في هذا المشروع، صعوبة حصولهم على التمويل، حيث لم يبق سوى شهرين على تسليم كل مجموعة مشروعها إلى المشرف حتى تحصصل على التقييم وانهاء المساق، وجميع المجموعات الأخرى كانت تنهي أعمالها، باستثناء مجموعة أنس فلم يكن لديهم الدعم الكامل للبدء بالعمل، فيروي لنا قصة بدء الحصول على الأموال "في يوم من الأيام كنت ذاهبا الى الجامع لأداء صلاة المغرب وكنت محبطا جدا لعدم إنجازنا أي شيء، وبالصدفة جلبت أوراق الخدمة للمساق ووضعتها بجانبي، أنهيت صلاتي وعدت كي استرجعهما، رأيت حاجا مسنا يمسك هذه الأوراق ويسألني عن التفاصيل وكيف لنا بالمساعدة، وقام بمناداة كل من في الجامع كي يساهم ولو بمقدار بسيط، ومن هنا بدأ التمويل وحصلنا على حوالي 56 ألف شيقل، وقمنا بتشطيب البيت كاملا من جديد .
وفي حديث مع مشرف المساق الدكتور محمد دويكات حول فكرة المشاريع، يقول "مساق الهندسة والمجتمع موجود منذ حوالي 20 سنة، كان يدرس بطريقة نظرية بوجود مادة مقررة وامتحانات ورقية، قبل فترة قصيرة من سنتين تقريبا حاولت تغيير خطة المساق الى عملية، خصوصا انني حينما كنت طالبا كنت أحبذ النشاطات العملية اللامنهجية".
ويضيف: في البداية قمت بتعديل الخطة وإدخال مشروع صغير يقضي بزيارات عادية بسيطة للعديد من المؤسسات، لكن لم أشعر بأن ذلك أحدث جدوى ومنفعة للطلاب، فخطرت في بالي فكرة مساعدة العائلات المحتاجة، وتساءلت حينها هل سيستطيع الطلاب القيام بهذه المهمات ومساعدة العائلات التي تنتظر عونا؟ فكان هناك جرأة كبيرة بأن تقرر هذا المخطط ، تحدثت مع طلابي وقلت لهم أنتم أمام فئة معينة من الناس لمساعدتهم تحت إطار الهندسة والمجتمع فبذلك تستطيعون تحقيق وصف المساق المطلوب .
وتابع: "واجهتنا العديد من المشاكل حيث هناك بدايات متعثرة، لكن بعد ذلك حصل إنجاز عظيم، وذلك من مجهود طاقات شبابية فقط، حيث أذكر في بعض المساقات كان هناك والد لإحدى الطالبات حضر إلى القاعة، وأول ما تبادر إلى ذهني أنه جاء ليعاتبني بتشغيل إبنته في هذه الأعمال الميدانية الصعبة، لكن ظهر لي شيء مختلف تماما بعد ذلك، فهو قادم فقط كي يستفسر عن فكرة المساق وكيف يمكنه المساعدة، وباشر معنا بالعمل وكانت له بصمة مميزة".
ويرى دويكات ان على كل شخص المساهمة، لأن ذلك ينعبث من وازع ديني وأخلاقي واجتماعي، وعلى كافة المعاهد والجامعات والمدارس أن تدرج فكرة العمل التطوعي في كافة مؤسساتها لتحفيز الفرد واكتشاف قدراته، ومن ضمن الأعمال التي أنجزها المساق كان هناك مساعدة من فئة طلاب المدارس حيث كان هناك دافع وحماس كبير لديهم في العمل والإنجاز الحقيقي .
وتعبر والدة الطالبة فريال عطعوط عن إعجابها الشديد بفكرة المساق الذي كان لإبنتها مساهمة كبيرة فيه، حيث ترى أنه مهادف وبناء من الدرجة الأولى يتعلم الطلبة فيه تطبيق القيم والمفاهيم النظرية بشكل واقعي وعملي، وبما يخدم الوطن ويسعد المحتاجين، كما أن ذلك لا يعود فقط على العائلات المستفيدة إنما على الطلاب أنفسهم من حيث تدريبهم على حب العطاء والمساعدة وتقوية الجانب الإيجابي في كل طالب .
وتضيف "بصفتي والدة إحدى الطالبات في هذا المساق، أشكر المشرف على هذه المبادرة والفكرة الخلاقة، وأهيب بكل الطلاب الالتحاق به لتقوية روح العمل الخيري الجماعي، وأدعو كذلك جميع أولياء الامور للسماح لأبنائهم من طلبة الجامعة الاشتراك والتعاون مع هذه المجموعات والمشاريع المفيدة" .
أما الطالبة في كلية الهندسة سارة الظاهر فلم تقف عند حد عدم السماح لها بتسجيل هذا المساق ضمن خطتها، حيث كان لديها الفضول الكبير لمعرفة كيفية العمل بعد مشاهدتها لإنجازات الطلبة، فباشرت في التطوع وطلب منها إعداد مسح ميداني وتقييم الوضع الانشائي للمباني وإعداد التقارير المرفقة بالصور .
تقول سارة: "هذا شيء بسيط مقابل ما يتم فعله بالمساق، لكن مجرد التعرف على فئات أخرى من المجتمع ومشاهدة الأوضاع الصعبة للكثير من العائلات عن قرب تجعلك إنسانا آخر حينها تستطيع أن تقدر قيمة المكان الذي تسكنه وكم أنت محظوظ من بين الآلاف من الناس ".
ولم يقف التطوع فقط على الطلبة داخل أسوار الجامعة إنما شمل جميع الفئات القادرة على أن تحدث تغييرا بسيطا في أي مجال، فباشر المصور الصحفي الزميل عبد الرحيم قوصيني بتكثيف جهوده ووضع سيارته بخدمة الطلاب لنقلهم لأي مكان يحتاجونه ونقل المعدات اللازمة.
ويعبر قوصيني عن إعجابه الشديد بالفكرة لان هذا المساق يحمل معنى الخدمة المجتمعية في مضمار مهم جدا كالهندسة، ما يرفع سقف مشاركة المجتمع ويربط الطالب بالعمل التطوعي والمحلي وخدمة الفئات المحتاجة والمهمشة .
يذكر أن التطبيق العملي لهذا المساق بدأ العمل به منذ حوالي سنتين، بفكرة من الدكتور في كلية الهندسة محمد دويكات، ويسمح لكافة التخصصات التسجيل فيه باستثناء كلية الهندسة، وتم إنجاز عدد ضخم من المشاريع في كافة أنحاء الضفة وتحسين أوضاع الكثير من العائلات المحتاجة، وفي الفترة القادمة سيتم العمل على مساعدة حوالي 400 عائلة محتاجة ضمن مشاريع ومجموعات طلابية، كما أن هذه المجموعات تعمل من دون الحصول على أي تمويل مسبق ولا عمال أو حتى مركبات نقل، فقط يتم العمل داخل الموارد المتاحة ومساعدات أهل الخير .
الحياة الجديدة