هواء جماعين: سم ابيض
ABRAJ: 2.08(0.00%)   AHC: 0.84(%)   AIB: 1.56(%)   AIG: 0.18(%)   AMLAK: 5.00(%)   APC: 7.25(%)   APIC: 2.60(0.00%)   AQARIYA: 0.86(%)   ARAB: 0.95(%)   ARKAAN: 1.40(0.00%)   AZIZA: 3.00(%)   BJP: 2.80(%)   BOP: 1.69(%)   BPC: 4.00(1.96%)   GMC: 0.80(%)   GUI: 2.20(4.76%)   ISBK: 1.48(0.68%)   ISH: 1.04( %)   JCC: 2.15(0.00%)   JPH: 3.81(0.00%)   JREI: 0.28(%)   LADAEN: 2.36( %)   MIC: 3.14(%)   NAPCO: 1.04( %)   NCI: 1.85( %)   NIC: 3.02(0.66%)   NSC: 3.23(4.87%)   OOREDOO: 0.82(0.00%)   PADICO: 1.08(1.89%)   PALAQAR: 0.42(%)   PALTEL: 4.47(1.97%)   PEC: 2.84(7.49%)   PIBC: 1.07( %)   PICO: 3.39( %)   PID: 1.90( %)   PIIC: 1.91(0.53%)   PRICO: 0.32( %)   PSE: 3.00(%)   QUDS: 1.29(0.77%)   RSR: 3.60( %)   SAFABANK: 0.58( %)   SANAD: 2.20( %)   TIC: 3.15( %)   TNB: 1.45( %)   TPIC: 1.95( %)   TRUST: 3.15( %)   UCI: 0.44(4.35%)   VOIC: 15.20(0.33%)   WASSEL: 0.92(0.00%)  
12:00 صباحاً 11 آذار 2015

هواء جماعين: سم ابيض

نابلس- الاقتصادي- وفاء الحاج علي- على بعد قرابة الـ16 كيلومتر إلى جنوبي مدينة نابلس، تقع قرية لا تنتظر موسم الثلج لترتدي ثوبها الأبيض؛ هي تقف هناك شامخةً، على ارتفاع 530م عن سطح البحر، ناصعة البياض، متبرجّةً بغبارها الأبيض ومرتديةً أحجارها الكريمة "القاتلة" التي أصبحت رمزًا لها.

حسب دراسة اقتصادية أعدّها نشأت عقل من مكتب "جذور" للمحاسبة لعام 2014-2015م، فقد كانت ستّون مقلعا للصخر (محجرا) وما يزيد على ثلاثين منشار حجر وعشر كسّارات، كفيلة بأن تجعل بلدة جمّاعين بيضاء في كل فصول السنة، فاشتهرت البلدة بغبارها، وضجيج معدّاتها الثقيلة التي تستخرج الصخر وتقصّه وتنقله بشكل يومي؛ فعُرفت جماعين باحتوائها الحجر الخام فائق الجودة أو ما يلقّب بـ"النفط الأبيض"، المستخدم في البناء بأشكاله المختلفة، والذي يتم استخراجه من أحشاء البلدة ليصدّر مقابل ملايين الدولارات إلى دول الخليج وأوروبا وحديثًا إلى الصين.

وذكر ديوان الرقابة المالية والإدارية في تقرير رسمي له، أُعّد عام 2011م، أن المبيعات السنوية التي يشهدها القطاع الحجري الفلسطيني تقارب الـ400 مليون دولار أميركي، ويعمل فيه 20 ألف عامل بشكل مباشر. 
رقم يجعلنا نتساءل حول ما إذا كان هذا المبلغ كافيًا ليشتري صمت قرية تحتضن قرابة الـ10 آلاف مواطن؟

الحجر الأزرق 

يعرف الحجر الجمّاعيني باسم "الجمّاعيني الستّيني" أو "الحجر الأزرق"، ويتراوح سعره للكوب الواحد الخام في الوقت الحالي، مع ارتفاع أسعار المحروقات، بين 1300 و1400 شيقل؛ سعرٌ لم يؤثر سلبًا على استهلاك الناس لهذا النوع من الصخر، نظرًا لجودته وتميّزه عن غيره.

يقول رئيس بلدية جماعين الحالي عصام الناظم إن جماعين تعد من أكثر البلدات انتعاشًا على الصعيد الاقتصادي في محافظة نابلس التي طالما كان لها الباع في التجارة والازدهار الاقتصادي؛ مبينًا أن حيوية جمّاعين تنبع من احتوائها الحجر المعروف بـ"البترول الأبيض"؛ فنفخت المشاريع الاقتصادية والاستثمارية العملاقة مثل مقالع الحجر (المحاجر) والكسّارات والمناشير، الروح في جماعين لتجعلها من أولى المناطق المصدّرة لحجر البناء فائق الجودة إلى جانب بعض المناطق في الخليل".

ويوضح الناظم أن الحجر الجماعيني تمكّن من شق طريقه إلى دول الخليج وأوروبا وحديثًا إلى السوق الصينية.

إلى جانب الرخاء الاقتصادي الذي تتمتّع به البلدة لاشتهارها بأجود أنواع الحجر على مستوى الوطن، فقد وفّرت المنشآت العاملة في مجال استخراج الصخر والتجارة به فرص عمل للمئات من الشباب الجمّاعيني، حيث يعمل في البلدة أكثر من 1500 عامل، الغالبية العظمى منهم في قطاع "الحجر"، وذلك وفقًا لما جاء في دراسة "جذور" للعام 2014-2015، التي بيّنت أن هناك قدرة لاستيعاب عمالة إضافية نظرًا لازدهار المشاريع الاستثمارية في بلدة جماعين.
 

مئة ألف للدونم

"يمثّل مقلع الحجر صندوق مفاجآت، قد تكون جيدّة أو خسارة فادحة، ذلك يعتمد على نوعية الحجر"؛ يقول أحمد زيتاوي "أبو مصعب" صاحب مقالع صخر في بلدة جماعين، والذي يعمل بالمجال منذ سنين عدة، موضحًا أنه "في بعض المناطق يستخرج ما قيمته من 70 إلى 100 ألف دينار أردني للدونم الواحد من الصخر، في حين أن مناطق أخرى يمكن أن تشكل خسارة ماديّة فادحة لأصحابها، ولا يظهر ذلك إلا بعد إتمام "الكشف"، وهي عملية إزالة طبقة سطحية من التراب للوصول الى الحجر الصلب، حيث يمكن أن يكون الحجر مقطّعًا أو ليّنًا، وبمفهوم اقتصادي: "غير صالح للبيع". 

رغم كلفته العالية والمخاطرة الهائلة التي تشكّلها عملية استخراجه وصقله، إلا أن حجر بلدة جماعين مرغوب بشكل لافت، سواء داخل الضفة الغربية أو خارجها، فيمتاز الحجر الذي يسمّى بـ"الحجر الأزرق"، أو "الجمّاعيني الستّيني" بصلابته وقدرته على التحمّل، إضافة إلى قلة الفراغات فيه، فهو يمتص نسبًا قليلة جدًا من الماء، نظرًا إلى تراصي جزيئاته، الأمر الذي يساعد الحجر على الحفاظ على لونه فلا يمكن أن يتغير وزنه عند نقعه بالماء مثلاً؛ كما يمتاز هذا النوع من الصخر عن غيره بكونه حجرًا أبيضًا مائلاً للزرقة؛ وله استخدامات رئيسية تتمثل في البناء بمختلف أشكاله، وهو أنواع عدة تختلف في ألوانها واستخداماتها ونوعيتها وأحجامها، مثل: المفجّر، والطُبزة، والمسَمسَم، والمطبّة.
 

40 مترا عمق بعض المحاجر 

يوضح أحمد زيتاوي "أبو معصب" أن مقلع الصخر أو المحجر، هي الأرض التي تعدّ صالحة لاستخراج الحجر الصلب ذات المواصفات التي تؤهله للمنافسة في السوق، مبيّنًا أنه قبل البدء باستخراج الحجر الصالح للبناء تتم عملية "الكشف"، ثم يُقص الحجر عن طريق معدّات متخصصة، ويمكن أن تمتد عملية القص إلى عمق 40 مترًا تحت سطح الأرض.

لكن التعمق إلى هذا الحد في الحفر يشكل خطورة كبيرة على العاملين في المحاجر، فالجدران الحجرية العملاقة معرضة للانهيار في أي وقت، وليس هناك إجراءات سلامة للوقاية من ذلك.
 

المحاجر عرضة للانقراض بعد نصف قرن 

يستوعب المحجر الواحد 5 عمال يعملون موزّعين على معدّات الحفر والقص وغيرها، إضافة إلى سائق للجرّافات ومحاسب، فخلقت فرص عمل لعدد لا بأس به من الشباب في البلدة، ما ساهم في تقنين الحاجة إلى العمل في إسرائيل؛ لكن كم ستدوم هذه النعمة؟

يتنبأ الزيتاوي انقراض المقالع الحجرية التي شهدت ازدهارها في الثمانينات من القرن الماضي، قائلاً: "كان في منطقة جرّاعة قرابة الـ20 محجرا، أما اليوم فلا يتعدى عددها الخمسة، ما يجعلني أتوقع انقراض البترول الأبيض في غضون قرابة الـ50 عامًا من الآن إذا استمر الأمر على هذا المنوال".

ويتابع: "في القدم، لم يكن عمق المقالع الحجرية تتعدى الـ20 مترًا، ذلك نظرًا لبدائية الآلات والمعدّات، إلّا أن اليوم يمكن أن يصل عمق المحجر إلى 40 مترًا؛ هذا الأمر وضع على الطاولة حقيقًة حتمية مفادها أنه بعد عقود عدة من الآن لن يكون هناك في جماعين "محاجر"، فهو مصدر اقتصادي غير متجدّد".


القوانين وإجراءات السلامة وهمية وغائبة

عند سؤال "القدس الاقتصادي" حول الجهة المخوّلة لإنشاء مشروع بضخامة مقلع حجر من الصفر، يجيب رئيس بلدية جمّاعين أنه: "تُمنح التراخيص لإقامة هكذا منشآت من مختلف الوزارات في الوطن، مثل وزارة الاقتصاد، والزراعة والتجارة، والبيئة، والحكم المحلي.

ويتابع موضحًا ان البلدية يقتصر دورها على التأكد من التزام أصحاب المنشآت بالقوانين المتعارف عليها والتي تسنّها هذه الوزارات، كما ان البلدية تزوّد هؤلاء بالكهرباء اللازمة للعمل مقابل "عوائد رمزية سنوية"، واصفًا هذا القطاع بالرافد الاقتصادي الذي لا يستهان به.

يوافقه في رأيه زيتاوي، موضحًا أن بعد الحصول على تراخيص لإنشاء المقالع الحجرية، يقتصر تدخّل البلدية على تزويد المقالع بالكهرباء، ورفع تقارير للجهات المختصّة في حال حدوث أي تقصير واضح؛ إلا أن القوانين الفعلية غير مطبقّة.

ولفت إلى أن "القوانين والالتزامات التي تسنّها الوزارات غالبًا ما تبقى حبرًا على ورق، ولا تدخل حيّز التنفيذ، لذا ينتهي الأمر بتبنّي أصحاب "المحاجر" اجتهادات شخصية للتخفيف من الأضرار التي قد تقع على العاملين أو القطاع الزراعي في البلدة او حتى أحيانًا الطرقات".

ويبيّن رئيس بلدية جمّاعين الحالي أن البلدية ألزمت أصحاب مقالع الحجر على التقيّد بالقواعد السطحية التي سنّتها وزارة البيئة، والتي تتمثل في وضع سواتر للكسارات، وزراعة أشجار حولها واستخدام المياه في جاروشة الكسارة، وفي حال عدم الالتزام يتم رفع تقرير للوزارات لتلزمهم بذلك، إلا أن دور البلدية ينتهي هنا، وغالبًا ما تقف الوزارات دون تحريك ساكن.

إلى هذا، كانت بلدية جماعين وضعت ما يسمى بالمخطط الهيكلي الذي يحدّد المناطق التي يسمح إقامة المنشآت العاملة في مجال الحجر عليها، مراعيًة ضرورة أن تكون هذه بعيدة عن الأماكن المأهولة لتجنّب زحف المحاجر وازدهارها على حساب مناطق سكنى المواطنين.

ويؤكد رئيس البلدية الناظم أنه سيُعطى أصحاب المنشآت الحجرية التي تداخلت والمناطق السكنية فرصة إنهاء مشاريعهم وإزالتها حتى تاريخ 1 تموز من العام المقبل 2015.

كما ألزمت البلدية أيضًا العاملين في المجال بساعات عمل محدّدة، فلا يسمح للمنشآت بالتنقّل وتشغيل مواكنها بعد الثامنة مساءً وقبل السادسة صباحًا، وذلك كمحاولة منها لتقنين حجم الأذى الذي لحق المواطنين إثر التلوّث الضوضائي والبيئي، ومرّة أخرى تبقى هذه قوانين وهمية لا يأخذ بها أحد.

وأما على الصعيد الشخصي، فيرى زيتاوي أن بعضا من أصحاب هذه المصالح اجتهدوا بالالتزام ببعض إجراءات الوقاية والسلامة، وبخاصة مع ازدياد نسب الحوادث في المقالع الحجرية والخطورة التي تلّف هذا النوع من العمل؛ وأوضح أن بعض "الحجّارة" يهتمّون بارتداء الملابس الواقية وتوفيرها لعامليهم، وهذه تشمل خوذة تحمي الرأس من الحجارة التي يمكن أن تتساقط من علو لا يقل عن 20 مترًا؛ مضيفًا أن التأكد من أن يكون هناك تأمينًا ذا مفعول سار في حال حدوث أي أمر غير متوقع، هي خطوة في مصلحة كل "حجّار".

ويتابع: "من الاجتهادات الشخصية الأخرى التي أخذها على عاتقهم أصحاب هذه المنشآت، عدم التعمّق في الحفر في حال كانت الحجارة ليّنة، وإذا اضطر إلى التعمق في هذا النوع، يُفضّل أن يُبنى حائط يسند الحجر من الانهيار".

إلا أن أصحاب المحاجر غالبًا لا يتقيدّون بهذه الإجراءات، وإن كانت بسيطة، وما يزيد الطين بلّة أن الجهات المسؤولة عادًة ما تغض الطرف عن القرى التي تعدّ "نائية" إلى حد ما، فلا عقوبات تُطبق، ولا تقارير تُرفع في حال حدوث أي تقصير.
 

هواء جماعين.. قاتل

يقول الطبيب في الجمعية العلمية الطبية في محافظة سلفيت رافع أبو عمر أن: "المحاجر والكسّارات ومقالع الحجر والبلدوزرات وغيرها من أنواع العمل الشبيه في جماعينينا أو "جماعينهم"، تساهم دون شك في تحسين المستوى الاقتصادي الخاص والعام في البلدة، إلا أنها تتسبب في أضرار صحيّة لا يمكن إغفالها، وإذا ما قارنّا المنافع المادية للمحاجر والسلبيّات الصحية المتمثّلة منها، سترجّح بالتأكيد الكفة للسلبيات".

يدعّم أبو عمر كلامه مستوضحًا بالدراسة التي أعدتها منظمة الصحة العالمية والتي تشدّد على أنه يجب ألا تتجاوز قوة أي صوت في الأماكن السكنية أكثر من 45 ديسيبل، مؤكدًا أنه "تم قياس قوة الصوت في منطقة المدارس في جماعين أثناء عمل البلدوزر (الباجر)، وزادت هذه عن 100 ديسيبل، وأن لهذا أثر كبير ليس على تحصيل العلميّ للطلبة فحسب، وإنما على نموّهم الجسدي، وحاسة السمع لديهم، هذا إلى جانب تأثير ذلك على أمراض الجيوب الأنفية والجهاز التنفسي وضغط الدم المرتفع وغيرها. 

ويتابع أبو عمر: "قابلت زميلاً لي كان تخصّص في مجال طبّ العيون، وكانت له عيادته في جماعين، وأخبرني أنه ورغم خبرته الطويلة في المجال، وعمله في عدد كبير من القرى والمدن الفلسطينية، لم يرَ نسبة انتشار للأمراض المتعلقة بالعيون مثل تلك التي شهدها في بلدة جماعين، ذلك نتيجًة لكميّات الغبار الهائلة التي يتعرض لها المواطنون بشكل يومي".

ويؤكد أبو عمر أن أطباء النسائية والتوليد أجمعوا على أن هناك ارتفاعا ملحوظا في نسبة حالات الإجهاض ومشاكل الحمل وتشوّهات الأجنة في بلدة جماعين، معلّلين ذلك بالوضع البيئي الكارثي الذي تتسّم به؛ كما أنه لوحظ في دراسة أُعدّت حول مشاكل العقم والخصوبة لدى الرجال أن انتشار هذه المشاكل بين الشباب الجمّاعيني في أعمار مبكّرة أصبح مقلقًا".

وأوجز أبو عمر المشاكل الصحّية الناجمة عن تعرّض الإنسان للغبار الناتج عن استخراج الحجر كما يلي:

- تليّف الرئتين ويعد من أخطر الآثار وأهمها، ويحدث نتيجة لاستنشاق الغبار والأتربة التي تصل إلى نسيج الرئة، وتكون وقتها كميّة الغبار في الهواء أكبر من أن تتفاعل معها الأنظمة الدفاعية للرئتين بالشكل الطبيعي.

- التهيّج والالتهاب: حيث يُحدث التعرض المستمر للغبار والأتربة الناتجة عن استخراج الصخر، تهيجًا والتهابًا في الأنف والحنجرة والقصبة الهوائية والشعبة الهوائية والرئتين.

- الربو: وهو من الأمراض المزمنة التي لا يمكن الشفاء منها.

ويضيف أن "هناك علاقة وطيدة بين الارتفاع المطرد في نسب الإصابة بسرطان الرئة نتيجة للغبار الناجم عن استخراج الصخر في جماعين"؛ مخاطبًا أصحاب المنشئات الحجرية قائلاً: "كفاكم! فقد حان الوقت لتخرجوا محاجركم خارج بيوت المواطنين، وجرّافاتكم وبولدوزراتكم من رؤوسهم، وغباركم من رئتيهم. 

 

Loading...