جحيم السفر عبر معبر الكرامة: الطريق الأقصر إلى الذل
10:24 صباحاً 13 تموز 2025

جحيم السفر عبر معبر الكرامة: الطريق الأقصر إلى الذل

سفر الفلسطيني.. رحلة تبدأ بالإذلال وتنتهي بابتزاز التذاكر || جسر الملك حسين: اسم على معبر.. والواقع جدار من المهانة || "سبعون دينارا لتذكرة بسبعة: السوق السوداء تبتلع المسافرين || الحل يكمن فقط بعودة عمل الجسر على مدار 24 ساعة

الاقتصادي- فراس الطويل- لا يحتاج الفلسطيني إلى جواز سفر فحسب ليغادر أرضه، بل إلى أعصاب من حديد، وصبر على المهانة، واستعداد دائم للدفع، سواء بالمال أو بالكرامة.

عند معبر الكرامة، حيث يفترض أن تبدأ رحلة السفر، تنطلق سلسلة متواصلة من الانتهاكات اليومية الصامتة، التي لم تعد مجرد اختناقات موسمية، بل باتت واقعا دائما يختبر الفلسطينيون مرارته على مدار العام.

في السابق، كان الجسر يعمل على مدار الساعة (استمر هذا النظام لفترة بسيطة). كان يمكن للمسافر أن يختار توقيت عبوره دون الكثير من التفكير أو التردد. لكن شيئا فشيئا، تآكلت تلك "المرونة" حتى أصبحت مجرد ذكرى. ساعات التشغيل تقلصت تدريجيا، من 24 ساعة إلى ثماني ساعات فقط، ثم خمس أو ست، ومع الحرب على غزة أُغلق الجسر في الرابعة عصرا، ومع الهجوم الإسرائيلي على إيران تقلص الوقت إلى الثانية، ومنذ أكثر من أسبوعين لم يُفتح بعد الواحدة والنصف ظهرا.

ومع هذه الساعات المبتورة، بدأت فوضى من نوع آخر. طوابير طويلة، حافلات مزدحمة، تأخيرات تمتد لثلاث وأربع ساعات. لا أحد يشرح، ولا جهة تبرر. المسافرون مجبرون على الانتظار، وكثيرون يضطرون إلى تقديم "إكراميات" على الجانب الأردني، وهي الكلمة التي تُستخدم لتجنب لفظ "رشاوى"، كي يتمكنوا من المرور في أوقات الأزمات أو الازدحام الشديد.

لم تتوقف الحكاية هنا. مع تفاقم الشكاوى وتصاعد التوتر، جاء ما سُمي بـ"النظام المسبق" لحجز تذاكر النقل من الجسر، في محاولة لتخفيف الضغط وتنظيم العبور. لكنّ هذا الحل لم يكن إلا واجهة شكلية لمشكلة أكثر عمقا. فبدلا من أن يسهل الحجز على الناس، أطلق النظام العنان للسوق السوداء.

التذاكر الرسمية التي يبلغ سعرها سبعة دنانير، أصبحت تُباع عبر وسطاء ومكاتب خاصة بما يصل إلى سبعين دينارا. مكاتب في عمّان والأغوار تحتكر الحجوزات يوميا، تشتريها من النظام ثم تعيد بيعها بفارق شاسع. مئات المسافرين رهائن لهذه الشبكة غير الرسمية، التي وجدت في غياب الرقابة فرصة لتكديس الأرباح على حساب المعاناة الجماعية.

ووسط هذا كله، يغيب الصوت الرسمي الفلسطيني الفاعل. تُنشر بيانات مقتضبة تؤكد وجود تنسيق مع الأشقاء في الأردن، وتُطلق وعود بمراجعة النظام، لكن لا أحد يرى أثرا لهذه المتابعة على الأرض. لا أحد يجيب على سؤال بسيط: من المسؤول عن تحويل رحلة الفلسطيني إلى كابوس يومي يتكرر؟

أمام هذا الواقع، بات كثير من الفلسطينيين يتراجعون عن فكرة السفر من أساسها. ليس فقط بسبب التكاليف الباهظة، بل بسبب المجهول الذي ينتظرهم عند الجسر. طفل مريض قد لا يلحق بموعد علاجه. طالب يفوته امتحان دراسي. عائلة تؤجل لقاء طال انتظاره. قصص تتكرر، وألم يتجدد، دون أن يتحرك ساكن.

الحديث عن أزمة عابرة في نظام السفر الفلسطيني هو تبسيط مخل. ما يجري عند جسر الملك حسين يعكس اختلالا بنيويا بين النظام والكرامة، بين الشكل والمضمون. لم يعد الأمر يتعلق بتقصير إداري، بل بمنظومة من التجاهل والاستغلال، تُمارس على الفلسطيني منذ اللحظة الأولى التي يفكر فيها بمغادرة وطنه، أو العودة إليه.

ما يحتاجه الفلسطيني اليوم ليس بيانا مطمئنًا ولا تعديلا تقنيا في تطبيق الحجز، بل إرادة سياسية حقيقية لمساءلة الفساد الصغير والكبير، وحماية حقه الأساسي في الحركة بكرامة. فالجسر، الذي يُفترض أن يكون بوابة عبور، تحوّل إلى بوابة إذلال.
الحل يكمن فقط بعودة عمل الجسر على مدار 24 ساعة. 

Loading...