خيارات الشركات للتخلص من ديونها.. دعائم قانونية للخطوات الاستراتيجية
2:06 مساءً 16 تموز 2025

خيارات الشركات للتخلص من ديونها.. دعائم قانونية للخطوات الاستراتيجية

الاقتصادي- المحامي والمستشار القانوني صهيب الشريف-  تعدُّ الشركات من الركائز الأساسية في الاقتصاد الفلسطيني. وتعمل هذه الشركات في بيئة معقدة وظروف استثنائية في ظل حالة مستمرة من عدم اليقين من جهة، ومن جهة ثانية، تعمل هذه الشركات بلا أي دعم "يُذكر" من الجهات الحكومية. ورغم التحديات الكبيرة الاقتصادية والسياسية التي تواجهها هذه الشركات، إلا أنها تواصل مساعيها للنمو والتوسع، مستفيدة من الفرص المتاحة في الأسواق المحلية والدولية

تعتبر التحديات المالية المتزايدة أحد أبرز وأهم التحديات التي تواجه الشركات، ذلك أن تراكم الديون وضعف التدفقات النقدية يؤدي إلى تهديد استمراريتها واستقرارها. ومع محدودية الموارد وتعاظم المآلات الاقتصادية المعقدة، تصبح بعض الشركات متعثرة مالياً وتغدو غير قادرة  على سداد ديونها.

نسلط في هذه المقال الضوء على استراتيجيات قانونية لها أبعاد مالية تمكن الشركات من تجاوز  تعثرها المالي بطريقة تضمن استمراريتها دون الإضرار بمصداقيتها.

يمكن للشركات في سعيها للتغلب على مشكلة التعثر المالي، بحث خيارات متعددة  تساهم في تقوية وضع الشركة المالي، بما يمكنها من تجاوز الأزمات المالية ويضمن استمرار عملياتها التجارية.

هل يمكن أن تتحول الديون من عبء يهدد بقاء الشركة إلى فرصة لإعادة البناء؟

نعم. إذ أن هناك طرق مبتكرة ومشروعة تتيح للشركات الفلسطينية التعامل مع ديونها بفعالية دون الوصول إلى الإغلاق أو تحمل أعباء إضافية، وتشمل:

 إعادة الهيكلة الداخلية: خط الدفاع الأول.

قبل البحث عن حلول خارجية، يجب على أي شركة تواجه صعوبات مالية أن تبدأ من الداخل. إعادة الهيكلة الداخلية هي خط الدفاع الأول والأكثر أهمية، لأنها تظهر للدائنين والمستثمرين المحتملين جدية الإدارة في معالجة المشاكل الأساسية. وتنقسم هذه العملية إلى شقين رئيسيين:

إعادة الهيكلة التشغيلية: تركز هذه العملية على تحسين كفاءة عمليات الشركة وخفض التكاليف غير الضرورية. تشمل الإجراءات العملية في هذا السياق:

تخفيض النفقات: مراجعة شاملة لجميع بنود المصروفات، من التكاليف الإدارية إلى نفقات التسويق، وتحديد المجالات التي يمكن خفضها دون التأثير على جوهر النشاط.  

إعادة هيكلة القوى العاملة: قد يكون من الضروري تقليل حجم العمالة/الموظفين في بعض الأقسام، مع مراعاة قانون العمل وحقوق الموظفين (يُمكن تخفيض رواتب الموظفين وفق القانون)، أو إعادة تدريب الموظفين وتوجيههم نحو مهام أكثر إنتاجية.  

تحسين العمليات: تبسيط سلسلة التوريد، تحسين إدارة المخزون، وأتمتة بعض العمليات لزيادة الإنتاجية وتقليل الهدر.  

بيع الأصول غير الأساسية: قد تمتلك الشركة أصولاً (عقارات، معدات، براءات اختراع) لا تخدم نشاطها الرئيسي. بيع هذه الأصول يمكن أن يوفر سيولة نقدية عاجلة تستخدم في سداد الديون أو تمويل العمليات التشغيلية.  

إعادة الهيكلة المالية: تهدف هذه العملية إلى تحسين هيكل رأس مال الشركة وإدارة تدفقاتها النقدية بشكل أفضل. وتشمل:

إدارة التدفقات النقدية: وضع توقعات دقيقة للتدفقات النقدية، وتسريع عمليات التحصيل من العملاء، وتأخير المدفوعات للموردين قدر الإمكان دون الإضرار بالعلاقات التجارية.  

إعادة هيكلة رأس المال: البحث عن طرق لزيادة رأس المال، مثل دعوة المساهمين الحاليين لضخ أموال جديدة، أو البحث عن مستثمرين استراتيجيين جدد.  

إعادة هيكلة الديون: فن الحوار مع الدائنين.

إذا لم تكن إجراءات إعادة الهيكلة الداخلية كافية لسد الفجوة التمويلية، فإن الخطوة التالية تكمن في الدخول في مفاوضات مباشرة مع الدائنين، وفي مقدمتهم البنوك والموردون الرئيسيون. الهدف من هذه المفاوضات هو التوصل إلى "إعادة جدولة للديون". تتضمن هذه العملية عادةً:  

تمديد آجال السداد: الاتفاق على تمديد فترة سداد القروض أو الديون المستحقة، مما يمنح الشركة وقتاً أطول لتوليد السيولة اللازمة.

تخفيض الأقساط: إعادة توزيع الدين على فترة أطول بأقساط شهرية أو ربع سنوية أقل، مما يخفف الضغط على التدفقات النقدية للشركة.

فترة سماح: الحصول على موافقة الدائنين على تجميد سداد أصل الدين أو الفوائد لفترة محددة (مثلاً، 6 أشهر أو سنة)، مما يتيح للشركة استخدام سيولتها في تمويل عملياتها التشغيلية العاجلة.

يعتمد نجاح هذه المفاوضات بشكل كبير على قدرة إدارة الشركة على بناء الثقة مع الدائنين. يتطلب ذلك شفافية كاملة حول الوضع المالي للشركة، وتقديم خطة عمل واقعية ومقنعة توضح كيف ستتمكن الشركة من التعافي والعودة إلى سداد التزاماتها في المستقبل.  

رسملة الديون: تحويل الدائن إلى شريك

عندما تكون الديون كبيرة بحيث لا يمكن معالجتها بمجرد إعادة الجدولة، يظهر خيار استراتيجي أكثر جذرية: "رسملة الديون" أو "مبادلة الدين بالملكية".

الآلية: تتمثل هذه العملية في اتفاق بين الشركة ودائنها على شطب جزء من الدين أو كله مقابل حصول الدائن على حصة ملكية في الشركة على شكل أسهم. من الناحية المحاسبية، ينتقل الدين من جانب الالتزامات في الميزانية العمومية ليصبح جزءاً من حقوق الملكية، مما يقوي المركز المالي للشركة بشكل فوري ويخفف من عبء خدمة الدين.  

الإطار القانوني: يوفر القانون الإطار اللازم لهذه العملية عند تنظيم زيادة رأس المال. إذ يفتح الباب أمام إمكانية سداد قيمة الأسهم الجديدة عن طريق مقاصة ديون مستحقة على الشركة، شريطة موافقة الهيئة العامة. بذات الوقت يجيز القانون إصدار سندات قابلة للتحويل إلى أسهم، بما يوفر آلية أخرى لتحقيق نفس الهدف.  

تحدي التقييم: يكمن التحدي الأكبر في هذه العملية في تقييم الشركة المتعثرة لتحديد عدد الأسهم التي سيحصل عليها الدائن مقابل دينه. فالطرق التقليدية لتقييم الشركات، مثل مضاعف الربحية أو تحليل التدفقات النقدية المخصومة، قد لا تكون فعالة، لأن الشركة المتعثرة قد لا تحقق أرباحاً ولديها تدفقات نقدية سلبية. كما أن قيمة أصولها قد تكون متضخمة في الدفاتر. لذلك، يصبح التقييم في هذه الحالة عملية تفاوضية معقدة تعكس ميزان القوى بين الطرفين، وتركز على القيمة المستقبلية المحتملة للشركة بعد إعادة الهيكلة، والمخاطر التي يتحملها الدائن عند تحوله إلى مساهم.  

تحدي الحوكمة: إن تحويل الدائن إلى شريك يثير تحديات كبيرة على صعيد الحوكمة، خاصة في الشركات العائلية التي تشكل غالبية النسيج الاقتصادي الفلسطيني. فالدائن الجديد (والذي قد يكون صندوق استثماري أو مصرف إسلامي) لن يكون شريكاً صامتاً، بل سيطالب بمقعد في مجلس الإدارة، وبفرض رقابة صارمة على القرارات المالية والإدارية، وتطبيق معايير حوكمة شفافة لضمان حماية استثماره الجديد. هذا التدخل قد يكون ضرورياً لإنقاذ الشركة، ولكنه قد يصطدم بثقافة الإدارة التقليدية في الشركات العائلية.  

الاندماج والاستحواذ: حل استراتيجي للإنقاذ

يعتبر الاندماج أو الاستحواذ خياراً استراتيجياً فعالاً للشركات المتعثرة التي تمتلك أصولاً قيمة (علامة تجارية، قاعدة عملاء، تكنولوجيا) ولكنها تفتقر إلى السيولة أو الكفاءة الإدارية.

الآلية: يمكن لشركة متعثرة أن تندمج مع شركة أخرى أقوى في نفس القطاع، مما يخلق كياناً جديداً أكثر قدرة على المنافسة والاستفادة من وفورات الحجم. بدلاً من ذلك، يمكن لشركة أكبر أن تستحوذ على الشركة المتعثرة، وتضخ فيها السيولة والخبرة الإدارية اللازمة لإنقاذها.  

الإطار القانوني: ينظم القانون إجراءات الاندماج. تتطلب العملية إعداد خطة اندماج مفصلة، تقييم أصول والتزامات الشركات المعنية، والحصول على موافقة الهيئات العامة للشركات المندمجة، ومن ثم تسجيل الشركة الجديدة أو التعديلات على الشركة الدامجة لدى سجل الشركات.  

الإطار القانوني في فلسطين: دعائم قانونية للتعافي

يوفر القانون الفلسطيني النافذ، وتحديداً قرار بقانون رقم 42 لسنة 2021 بشأن الشركات، أدوات قانونية حيوية تُمكن الشركات المتعثرة من تجاوز صعوباتها المالية. وقد أشرنا بالفعل إلى كيفية دعم هذا القانون لبعض الاستراتيجيات المذكورة سابقًا:

رسملة الديون: يُعد هذا الخيار الأبرز في القانون الجديد. فقد نصت المادة (162) صراحة على إمكانية "رسملة الديون المترتبة على الشركة أو أي جزء منها، شريطة موافقة أصحاب هذه الديون خطيًا على ذلك". وهذا يعني تحويل ديون الشركة إلى حصص أو أسهم في رأس مالها، شريطة موافقة أغلبية المساهمين (وجميع الشركاء في الشركات العادية). كما أن المادة (161) من القانون ذاته تُشير إلى إمكانية تحويل السندات إلى أسهم، بما في ذلك سندات الديون، مما يوفر آلية إضافية لتحقيق نفس الهدف.

ملاحظة هامة: عند تنفيذ رسملة الديون، يجب مراعاة تأثير ذلك على المساهمين الحاليين وهيكل ملكية الشركة، حيث سيؤدي إلى تغيير توزيع الأسهم/الحصص وتقليل حصة المساهمين الحاليين. لذا، من الضروري التفاوض مع الدائنين حول شروط تحويل الديون إلى أسهم، وتحديد قيمة الأسهم بعناية لضمان عدم التأثير سلبًا على القيمة السوقية للشركة، مع الامتثال الكامل للقوانين والأنظمة ذات العلاقة.

الاندماج والاستحواذ: ينظم قانون الشركات رقم 42 لسنة 2021 إجراءات الاندماج والاستحواذ بشكل واضح في المواد من (298) إلى (304). تتطلب هذه العملية إعداد خطة اندماج مفصلة، وتقييم أصول والتزامات الشركات المعنية، والحصول على موافقة الهيئات العامة للشركات المندمجة، ومن ثم تسجيل الشركة الجديدة أو التعديلات على الشركة الدامجة لدى سجل الشركات.

بالإضافة إلى هذه الآليات التفصيلية، يقدم قانون الشركات الفلسطيني أدوات أخرى تساهم في التعامل مع التعثر المالي:

التصفية الاختيارية: هي خيار للشركات التي تعتبر أن استمراريتها لم تعد ممكنة. يتم من خلالها تصفية الأصول لسداد الديون، مع تنظيم العملية بما يضمن وضع حد للخسائر بأقصى قدر ممكن من الكفاءة.

التحكيم والتسويات القانونية: تتيح هذه الآليات الوصول إلى حلول ودية ومرضية مع الدائنين دون الحاجة إلى اللجوء للمحاكم، وهي آليات بديلة لحل النزاعات بين الشركات والدائنين، مما يوفر الوقت والجهد ويحافظ على العلاقات التجارية قدر الإمكان.

التخطيط المالي والتعافي: خارطة طريق للشركات

بجانب الأدوات القانونية المذكورة، يُعد التخطيط المالي السليم حجر الزاوية في التعافي من المشاكل المالية والتعامل معها بكفاءة. ننصح الشركات بـ:

إعداد ميزانيات دقيقة وخطط استباقية: فهم واضح لوضع الشركة هو نقطة البداية لأي حل.

تعزيز الشفافية مع الدائنين والمستثمرين: بناء الثقة عبر التواصل الصريح يُفتح أبواب الحلول.

الاستفادة من الاستشارات المالية والقانونية المتخصصة: إن اللجوء إلى الخبراء هو استثمار وليس ترفًا، فهو يضمن اتخاذ القرارات الصحيحة والمدروسة.

في الختام، نرى أن التعامل مع الديون بفعالية ليس مجرد إجراء مالي، بل هو استراتيجية لإعادة البناء والنهوض والاستمرارية. عبر الاستفادة من الأدوات القانونية والمالية المتاحة، ويمكن للشركات الفلسطينية تحويل تحدياتها إلى فرص للنمو بدلاً أن تكون وسيلة للخروج من الأزمة، مع تعزيز ثقة الشركاء والدائنين في قدرتها على تحقيق النجاح في بيئة مليئة بالتحديات.

Loading...