الذهب في فلسطين: أسعار قياسية تعيد تشكيل السوق والقدرة الشرائية
9:51 صباحاً 30 تشرين الثاني 2025

الذهب في فلسطين: أسعار قياسية تعيد تشكيل السوق والقدرة الشرائية

الاقتصادي- سجى أزعر - تشهد أسواق الذهب العالمية ارتفاعًا لافتًا خلال الأشهر الأخيرة، مع تجاوز الأسعار مستويات قياسية، متأثرة بانخفاض الدولار الأميركي وتبدّل توقعات الفائدة في الولايات المتحدة، إضافة إلى التوترات الجيوسياسية المتصاعدة التي عززت دور الذهب كملاذ آمن للمستثمرين. هذا الصعود العالمي انعكس مباشرة على السوق الفلسطيني، حيث ارتفع سعر غرام الذهب عيار 21 هذا العام إلى نحو 80 دينارًا، مقارنةً بما كان عليه في الأعوام السابقة عند حدود حوالي 45 دينارًا للغرام الواحد، ما فرض ضغوطًا كبيرة على ميزانيات الأسر وقدرتها على الشراء

في نابلس، يشير أحد التجار (م. ع) لموقع الاقتصادي، إلى أن السوق تغيّر جذريًا خلال العامين الأخيرين؛ فقبل الارتفاع الكبير كان بإمكان العروس شراء طقم يصل وزنه إلى 100 غرام بسهولة، مع ربح ثابت يصل إلى دينار ونصف في الغرام الواحد. اليوم، اضطُر التاجر لتقليل الأوزان والحفاظ على الشكل الخارجي للقطع لتتناسب مع القدرة الشرائية المتراجعة، حيث يكتفي معظم المشترين بميزانيات محدودة لا تتجاوز خمسة آلاف دينار. واتفاقًا مع حديث تاجر آخر، فإن هذه التغييرات ليست خيارًا بل ضرورة للتكيف مع الواقع الجديد في السوق

الشباب المقبلون على الزواج يعيشون واقعًا صعبًا، كما يوضح فواز حنني الذي كانت خطته تضم مجموعة كاملة من الذهب، لكنه اصطدم بأسعار غرامات صغيرة باتت باهظة بشكل غير مسبوق، ما أجبره على تقليص كل شيء وإعادة ترتيب الأولويات. ويصف فواز الوضع لـ "الاقتصادي" قائلاً إن الزواج أصبح حلمًا يحتاج جهدًا ووقتًا أكبر، فيما تُضطر العائلات للتخلي عن التقاليد والكماليات والاكتفاء بالأساسيات، تحت وطأة الأسعار القياسية وانهيار القدرة الشرائية

في طولكرم، يصف مدير مجموعة «أبو الأمين»، أسيد أبو حسيب، مشهدًا غير مألوف في سوق الذهب المحلي فالأسعار العالمية عادة تُضاف إليها قيمة محلية قبل أن تصل للمستهلك، إلا أنّ ضعف القوة الشرائية دفع بعض المحلات لتخفيض السعر إلى ما دون «الشاشة»، أي أقل من السعر العالمي نفسه، وهي حالة نادرة جدًا، على حد تعبيره. هذا التراجع أجبر المصانع والمتاجر على تعديل طبيعة القطع؛ فالإساور الثقيلة التي كانت تُباع بسهولة أصبحت تُنتج بنصف وزنها تقريبًا، كما قلّصت أوزان القلائد الكبيرة رغم المحافظة على تصميمها نفسه ويشير أبو حسيب إلى أن هذه التغييرات لم تكن خيارًا تجاريًا بل ضرورة للبقاء في السوق.

ومع تراجع القدرة الشرائية وتقليص مشتريات الزينة، برز اتجاه مختلف لدى قسم من الزبائن نحو شراء السبائك والليرات بهدف الادخار, فمع انعدام الثقة بالقطاعات الأخرى وغياب فرص الاستثمار التقليدية، أصبح الذهب الاستثمار «الأكثر أمانًا وسهولة في التسييل» ففي أحد فروع المجموعة، شكّلت عمليات شراء الليرات والأونصات نحو 60% من قيمة المبيعات اليومية، بينما شكّلت الزينة — رغم كثرة زبائنها — نسبة أقل بكثير، وتراجعت هدايا المناسبات لتصبح شبه هامشية مقارنة بالسنوات السابقة.

ويتداخل في المشهد الاقتصادي والاجتماعي أبعاد أعمق من مجرد ارتفاع الأسعار؛ فمعدلات البطالة المرتفعة وتراجع الدخل المتاح لدى الأسر جعلت الذهب سلعة صعبة المنال بالنسبة لمعظم العائلات لم يعد الشاب قادرعلى شراء طقم كامل، ولم تعد العروس تمتلك رفاهية اختيار القطعة التي تريدها، كما لم يعد التاجر قادراً على بيع القطعة بالوزن التقليدي.السوق بكامل حلقاته — منتِج، تاجر، ومستهلك — اضطر لإعادة تشكيل عاداته ومعاييره بما يتناسب مع الواقع الجديد.

يظهر الذهب في فلسطين اليوم كمرآة للأزمة الاقتصادية والاجتماعية: أسعار عالمية مرتفعة، وقدرة شرائية منهكة، وتغيّر في أنماط الاستهلاك، واتجاه متزايد نحو الادخار على حساب الزينة، بينما يسعى السوق للبقاء عبر تخفيف الأوزان وتعديل الموديلات، مع توقعات بأن هذا المشهد سيستمر في التطور بما يعكس واقع الأسر والاقتصاد المحلي.

Loading...