تقرير الاقتصادي || دكاكين القرية تترنح… والمولات تتكاثر
11:07 صباحاً 04 كانون الأول 2025

تقرير الاقتصادي || دكاكين القرية تترنح… والمولات تتكاثر

المتاجر الكبرى تتمدد… والبقالات الصغيرة تختفي: سوق غير متكافئ يهدد آلاف الأسر

خاص الاقتصادي- تتبدّل خريطة التجارة في فلسطين بهدوء، لكن آثارها تبدو صاخبة في حياة الناس. فمن جهة، تتوسع  محال السوبر ماركت الكبرى والمولات في المدن والبلدات بوتيرة متسارعة، تفرض حضورها بتصميمات حديثة، وعروض واسعة، وقدرة ضخمة على التوريد.

ومن جهة أخرى، تنكمش البقالات والدكاكين الصغيرة التي شكّلت، لعقود طويلة، العمود الفقري للقرى والأحياء، ومصدر رزق رئيسي لآلاف العائلات الفلسطينية.

ومع اشتداد هذا التحول، تقف الدكاكين الصغيرة اليوم على حافة مصير قد ينتهي إلى الإغلاق، تاركة وراءها فراغا اجتماعيا واقتصاديا يصعب تعويضه.

في القرى الفلسطينية، لا تزال البقالة الصغيرة مساحة تتجاوز فكرة “المتجر”، مشكلة نافذة حياة يومية: يعرف صاحبها الزبائن واحدا واحدا، ويعرف احتياجات كبار السن، ويمدّ يد العون لمن يمرون بضائقة مالية عبر الدَّين المؤجل.

وفرت هذه المحال عبر الزمن دخلا ثابتا لعب دورا حاسمًا في إعالة الأسر، خاصة تلك التي لم تجد فرصا في الوظائف الحكومية أو في سوق العمل المنظم. لكنها اليوم تتعرض لضغوط غير مسبوقة جعلت أرباحها تتآكل، وإمكانية استمرارها تصبح أكثر صعوبة.

في المقابل، يقدم المتجر الكبير ما لا تستطيع البقالة الصغيرة مواكبته: تنوع السلع، والعروض الضخمة، والأسعار المنخفضة، وخدمة التوصيل، والدفع الإلكتروني، وساعات العمل الطويلة، والأرفف المنظمة التي تمنح المستهلك شعورا بالراحة والرفاهية.

هذه الفوراق لا علاقة لها بكفاءة أصحاب البقالات، بقدر ما تتعلق بقوة رأس المال وباقتصاد “الكمية الكبيرة” الذي يسمح للسوبر ماركت بالشراء من المورّدين بأسعار مخفضة لا يحصل عليها التاجر الصغير مهما حاول.

وهكذا يجد صاحب البقالة نفسه يشتري السلع بسعر أعلى مما يبيع به المتجر الكبير، فيفقد الزبائن تدريجيا، ثم القدرة على الدوران المالي، لتبدأ رحلة الانكماش أو الانسحاب من السوق.

دفع هذا التحول أصحاب البقالات إلى التعبير عن مخاوف علنية. يقول أحد التجار في إحدى قرى شمال رام الله لموقع الاقتصادي: “نشتري بسعر أعلى مما يبيعون. كيف ننافس؟ وكيف نغطي الإيجار والكهرباء ونحافظ على الأسعار؟ كل يوم نخسر زبونا، وفي سنة واحدة صارت مبيعاتنا نصف ما كانت عليه".

هذه الشهادات تتكرر في معظم القرى والأرياف، حيث شكلت البقالة الصغيرة طوال عقود مشروعا عائليا مستقرا يسد احتياجات الحي، لكنه اليوم مهدد بالاختفاء تحت ضغط المنافسة غير المتوازنة.

ولا تقتصر خسارة الدكاكين على الجانب الاقتصادي، بل تمتد إلى البعد الاجتماعي. فالبقالة جزء من نسيج الحياة: مكان للقاء الجيران، وتبادل الأخبار، ودعم الأسر المحتاجة، ومركز يومي لحركة الناس في الحارة.

ومع تراجعها، ينحسر هذا الدور لصالح مساحات تجارية كبيرة لا تشبه حياة القرية ولا تعكس روح المكان. فمن الصعب تخيل أن مولا ضخما يمكن أن يحل محل العلاقة الإنسانية التي تربط صاحب البقالة بأهل حارته منذ عشرات السنين.

مع ذلك، لا يبدو أن هذا المسار سيتوقف قريبا. فالمولات والمتاجر الكبيرة تواصل التمدد، مدفوعة بقدرة عالية على الاستثمار، واستراتيجية توسع تستهدف القرى كما المدن.

وفي ظل غياب سياسات تحمي صغار التجار، أو تشرف على توزيع الأنشطة التجارية بما يمنع التركز، يجد أصحاب البقالات أنفسهم في معركة غير متكافئة، يواجهون فيها رأس مال ضخما، وسلوكا استهلاكيا متغيرا، وكلفة تشغيل ترتفع عاما بعد عام.

المرحلة المقبلة قد تحمل تحولات أعمق إذا لم تُتخذ إجراءات واضحة لدعم هذه المتاجر الصغيرة: تخفيضات ضريبية، وسهيلات في التوريد، وبرامج تمويل صغيرة، أو حتى تنظيم توازن بين انتشار المتاجر الكبرى وحماية المشاريع الصغيرة في القرى. فاختفاء البقالات الصغيرة يمثل أكبر من فكرة تغير في نمط التسوق، ويمتد إلى خسارة لمصدر رزق أساسي لآلاف العائلات، وتهديد لجزء من هوية المجتمع الفلسطيني.

في النهاية، السؤال الذي يفرض نفسه ليس فقط: من يربح ومن يخسر؟ بل: أي نموذج للحياة نريد في القرى والأحياء الفلسطينية؟ نموذج ضخم يبتلع الصغير في كل مرة؟ أم توازن يسمح للنمطين بالعيش جنبا إلى جنب؟

فالدكاكين الصغيرة قد تكون متواضعة في حجمها… لكنها كبيرة في أثرها، وفي الدور الذي لعبته في إعالة الأسر ونسج الروابط الاجتماعية التي لا يمكن للمولات الحديثة أن تبنيها.

Loading...